قراءة في الومضة القصصية (حماقة) الفائزة بالمركز الأول في المسابقة
الأسبوعية رقم 23 (أول الأوائل لعام 2019)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بهية إبراهيم الشاذلي
حَماقَة
خلط نفسَهُ بالقَشِّ؛ نبشَهُ الدَّجَاج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقودنا العنوان إلى حالة (حماقة): بلاهة،
رعونة، سفاهة، طيش، هوج... فينشط ذهن القارئ، و تتوقد مشاعرة، و تتأهب غريزة (حب
الاستطلاع) لمعرفة تفاصيل ما حدث؛ فيأتي الشطر الأول من المتن مبهما: (خلط نفسه
بالقش)؛ بتلك الجملة الرمزية بدأت الكاتبة التعبير عن فكرتها، ثقة منها في أن الرمز وحده يؤدي
الدلالة الموحية دون تصريح بها، و من ثم يصبح القارئ مشاركاً للمبدعة في نصها، من
خلال ترجمة العبارة المبهمة، و محاولة الوصول للمعاني الخفية العميقة، و هو ما
يستحق الإشادة بأسلوب الكاتبة التي اعتمدت التلميح دون التصريح، و تلك هي طبيعة
الفن الراقي.
و من ثم يفسح تأويل الومضة القصصية المجال لأكثر
من قراءة:
ـ (خلط نفسه بالقش): راوغ متذبذبا بين موقفين متناقضين في محاولة للتخفي و التستر؛
يقول (وليد الأعظمي):
و يراوغون حماقة و تذبذبا *** بين الهداية و الضلال.
و هو (تستر) مفضوح، يتوافق مع طبيعته المتناقضة؛ يقول (عبدالواسع
السقاف):
تستر، و إن خاطبته تكبر *** و إن مدحته تجبر.
و تكتمل الصورة بالشطر الثاني:
(نبشه الدجاج): فما استطاع (القش) أن يستر عريه، بل كان دافعا مشجعا للنبش فيه
و كشف حقيقة أمره.
و في قراءة ثانية، مبنية على دقة الوصف الوارد (خلط نفسه بالقش)؛ ذلك الخلط الذي
يأتي اتساقا مع المثل اليوناني: (لا عبقرية دون ذرة من جنون)؛ يقول (محمد الماغوط):
أحوال الناس على
الطبيعة، نزوة أو حماقة من حماقات العباقرة.
يقول (جبران خليل جبران):
بين الجنون و العبقرية
خيط أرفع من نسيج العنكبوت.
و لكن و للحق تلك
(الحماقة لا حماقة مثلها) كما يقول (معروف الرصافي).
و في قراءة ثالثة، تتكئ
على حقيقة عدم سعي العبقري لإظهار تميزه، مفضلا ـ أن (يخلط نفسه بالعامة من الناس)
ـ لتظل عبقريته محجوبة عنهم، و هو ما يدعو
المجتمع (للنبش) بحثا عن الموهوبين؛ اتساقا مع ما ذكره (أدولف هتلر): "العبقرية
تحتاج إلي (نبش) كي تظهر و تبهر بمآتيها الأنظار".
كما تدفعنا كلمة (نبش) المرتبطة
بإثارة الأسرار و إذاعتها؛ اتساقا مع ما قاله (الأخضر اللّهبي):
لا تنبشوا بيننا ما كان
مدفونا...
إلى قراءة أخرى، و ليست أخيرة.