قراءة في
الومضة القصصية (جهل) الفائزة بالمركز الأول في المسابقة الأسبوعية (أول الأوائل)
لعام 2019
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بهية إبراهيم
الشاذلي
جهل
اهتدوا لمواقع
التواصل؛ فقدوا البوصلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان
(جهل)، من مرادفاته: بَلاَهَة، تَفَاهَة، حَماقَة، رُعُونَة، سَخافَة، سَفَه، طَيْش،
عُتْه، غَبَاوَة، غَفْلَة، نَزَق، هُرَاء، دَنَاءَة...
و ما من شك أن
(الجهل) ـ طبقا لمعناه الوارد ـ مرتبط ارتباطا وثيقا بالتسرع و الطيش؛ يقول (البحتري):
تَسَرُّعَ جهل
الطائش المُتَوَثِّبِ...
و هو مرتبط
بالغفلة و التهويم؛ تقول (نازك الملائكة):
ـ جهل الحقائق
في الحياة, فلم يطق *** عن زيفها هربا و عاش مهوّما
و مرتبط أيضا
بالتيه بمعنييه:
1ـ التكبر، الاختيال،
التبجح، التطاول؛ يقول (البحتري):
فأظهر التيه من
جهل، و قابلني *** بسيئ لم يكن من حق مقداري
2ـ التيه
بمعنى الضلال، و عدم الاهتداء؛ تقول (فدوى طوقان):
تيه المعمّى، تيه
الحياة السحيق *** لا أرى غاية لسيري، و لا أبصر قصداً يوفي إليه طريقي
و يقول (الحسن
بن علي بن جابر الهَبَل):
اربأ بنفسك أن
تضل عن الهدى *** و تظل في تيه الهوى متحيرا
و واضح من
بداية المتن أن ما تقصده الكاتبة بومضتها القصصية هو الحديث عن المعنى الثاني من
معاني (التيه) الناجمة عن (جهل) البعض؛ قالت: (اهتدوا لمواقع التواصل؛ فقدوا البوصلة.)
و المدهش هنا
هو أن هذا (الاهتداء) هو ذاته مقدمة (لفقدان البوصلة)، و هو تعبير بلاغي مقصود به:
(التيه و الضلال)؛ فيا لها من فكرة مدهشة، و صياغة بلاغية معبرة عن واقع حال بعض
هؤلاء الذين اهتدوا لطريق التواصل، لكنهم فقدوا القدرة على التمييز؛ فجرفهم جهلهم
لحارات التيه و الضلال!.
قال الكاتب
المغربي/ محمد نور بنحساين في ومضته القصصية (بصيرة) المنشورة في مسابقتنا اليومية
ليوم الجمعة 20 مايو 2016: (فقد البوصلة؛ قاده العميان).
فبعد أن
(اهتدوا لمواقع التواصل): الاتصَال، الارتبَاط، العَلاَقة الطيبة؛ حدث أن خانهم
التوفيق في صدق هذا التواصل الإيجابي، و فضلوا القبح على الجمال، و التشهير على
الستر؛ يقول (ابن نباتة المصري):
زعم المشنع أنني
واصلته *** ليت المشنع عن تواصلنا صدق
ذلك التواصل
الذي يتم الآن بطريقة غير مباشرة، من خلال ما يُطلق عليه (مواقع التواصل
الاجتماعي)، و هو تواصل (افتراضي)؛ يواكبه انفصال عن التواصل (الواقعي)؛ حتى أضحى
الأول بديلا عن الثاني، و تحضرني هنا ومضة قصصية أخرى بعنوان (انترنت) ـ سبق نشرها
في مسابقتنا اليومية ليوم الاثنين 20 يناير 2014 ـ عبر فيه الكاتب المصري/ ياسر رسلان
عن هذا المعنى بإيجاز بليغ: (انقطعت الكهرباء؛ تواصلت الأسرة).
و من هنا تتضح
سلبية التواصل الافتراضي الذي أتي على حساب الانقطاع، الإحجام، الإعراض، الانفصال
عن التواصل الواقعي، و هو الواقع الذي لا ينبغي ـ بل و لا يمكن ـ للإنسان أن ينفصل
عنه؛ يقول (الشريف الرضي):
لم يَخلُ مَن تَرْمي
الخطوبُ سوَادَه *** من واقع أبدا و من متوقع
فإذا ما كان (التواصل
الاجتماعي) ـ افتراضيا أو واقعيا هو: مقياس لكيفية تضافر الناس و تفاعلهم مع بعضهم
البعض. فينبغي أن تتسع الدائرة الاجتماعية
لتشمل العائلة، و ألا تقتصر على الأصدقاء و المعارف فقط.
و ما من شك أن
(الاهتداء) لمواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها وسيلة مفيدة و فعالة في تشكيل
صداقات جديدة، و توطيد علاقات قائمة، سلاح ذو حدين؛ إما أن يكون بهدف نقل الأفكار
و تبادل الآراء الجيدة المتعلقة بموضوع معين، أو الترويج التجاري لسلعة أو خدمة
ما... و إما أن تكون وسيلة لإضاعة الوقت، و الترويج لأفكار سلبية تضر الفرد و
المجتمع، بما تتيحه تلك المواقع من مضايقات تصل إلى حد الجرائم الالكترونية التي
يعاقب عليها القانون، فضلا عن بعض المحتويات غير الأخلاقية... و ربما يكون هذا ما
قصدته الكاتبة بالشطر الثاني من ومضتها القصصية: (فقدوا البوصلة).
و طبقا لما
اعتدناه من تحليل لمفردات النص، نقول:
أن (البُوصلَة)
هنا ليست هي: الجهاز الذي تُعَيَّن به الجهات. أو الآلَةٌ المُكَوَّنَةٌ مِن عَقْرَبٍ
مُمَغْنَطٍ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ مَدَارٍ يَسْمَحُ اتِّجَاهُهُ بِمَعْرِفَةِ نَاحِيَةِ
الشَّمَالِ. كما ورد في (المعجم: الغني)، لكنه تعبير بلاغي لوصف التوجهات الشخصية
للفرد، و هو ما يُطلق عليه (بوصلة الشخصية) و يقودنا هذا حتما إلى الإشارة لوجود
طريقة جديدة أو: "أسلوب جديد لفهم طبيعة الناس و أنماط السلوك، بالتحليل الذي ينبني
على سلوكيات، و ميول محسوسة للشخص، و هو ليس من التنجيم، أو الرجم بالغيب، و يتم
من خلال التقسيم بناء على النسبة إلى الجهات الأربع، و هو ما يسمى بالتناظر الثقافي
بين سكان الكرة الأرضية (شمالي ـ جنوبي ـ شرقي ـ غربي)؛ مثال: أنت سريع الغضب، سريع
الرضا/ بطيء الغضب، سريع الرضا. صوتك عال عند الحديث، وتصرخ عند الغضب/ صوتك هادئ وعندما
تغضب يزداد حدة في الأسلوب، وتكره الصراخ. تميل أن تكون قائدًا، ولا تحب أن تكون تابعًا،
فأنت شجاع، وتستطيع الارتجال/..."
و هناك تفاصيل أكثر؛ يمكن التعرف عليها؛
من خلال قراءة ذلك الكتاب المدهش (بوصلة الشخصية) لدايان تيرنر وثلما
جريكو - ترجمة د/ حمود الشريف، و يتكون هذا الكتاب من سبعة فصول: بدأها بفصل عن مراجعة لطبائع الإنسان
الأربع، ثم شرح
تفصيلي لبوصلة الشخصيات بشكل عام و كيفية معرفة نمط الإنسان، تبعه بفصول أربعة
تناولت: الطبيعة الشمالية ـ الطبيعة الجنوبية ـ الطبيعة الغربية، ثم الفصل الأخير عنوانه:
(البشر
ليسوا متعبين، فقط مختلفين).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ يقول (الشاعر/ محمد جابر
مدخلي):
وَهْنٌ تَجَلَّى
على أقطابِ بوصلتي *** شعاعُهُ مِنْ مدارِ الشمسِ يَضْطَرِبُ
ـ يقول (فينسنت
فان غوخ): الضمير بوصلة المرء.
ـ يقول (علي بن
جابر الفيفي): عدّل بوصلة قلبك باتّجاهه ثم سر إليه ولو حبوًا على ركبتيك، ستصل ﴿فأينما
تولوا فثم وجه الله﴾.
ـ من الأقوال
المأثورة: خير لك أن تسير كالسلحفاة على الطريق الصحيح أفضل من أن تكون كالغزال في
الطريق الخطأ؛ فالوصول متأخرا خير من عدم الوصول.