قراءة في
الومضة القصصية الفائزة بالمركز الأول في مسابقة أول الأوائل رقم 1 لعام 2019
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقمان محمد
حياة
كبر أبي؛ صار
طفلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان
(حياة): من مرادفاته: رُوح, قَلْب, مُهْجَة, نَفْس، عُمْر, عالم، عِيْشَة، و هو
عنوان مفتوح على (حياتين):
(حياة) دنيا: اَرْضِيَّة,
زائِلَة, فانية، و (حَيَاة) اُخْرَوِيَّة: مُقْبِلَة, أَبَديَّة.
و لأن المتن
جاء معبرا عن صفة (البر)؛ فقد تأكدت حقيقة العلاقة الوثيقة بين الحياتين باعتبار
أن (الدنيا مزرعة الآخرة)؛ كما وضحت دقة و حرفية اختيار العنوان (حياة): (كبر أبي؛
صار طفلي)، قالت الشاعرة نازك الملائكة:
قد نعمتم من (الحياة) بأحلى *** ما عليها وفزتم بـ(جناها).
يقول الحق في
محكم التنزيل: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [سورة الأعلى الآية 17] ، (وَإِنَّ
الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة العنكبوت
الآية 64].
فبماذا أخبرنا
المتن على لسان كاتبه:
ـ (كبر أبي):
لم يقل (شاخ أو هرم)؛ رغم أن كلمة كَبَرَ: تعني زاد عليه في العُمر، أي كان أكبرَ منه سِنًّا؛ إلا أن كبر الشخص
لها معانٍ منها: عظُم و جسُم، نما وازداد، نشأ و ترعرع. و كبُرت نفسُه: كان كريمًا
شُجاعًا. و كبُر عن مخالطة الأشرار: ترفّع ، و تَنزّه. و الكُبْرُ: الشَّرفُ و الرفعة، و يقال (هو كُبْرُ قومه): أَكبرهُم في السِّنّ،
أَو في الرَّياسة، أَو في النَّسَب.
و الأكبران: الهِمَّة و الفِعال أو الهِمَّة و النَّفْس. و (رجل كُبَارة): رجل
وقور، عظيم الشأن. يقول ابن المعتز: (كبرَ الحبَّ إذ كبر).
من هذا يتضح اهتمام الكاتب باختيار ألفاظ ومضته القصصية بدقة و حرفية
و إتقان، و تأتي كلمة (أبي)؛ هي الأخرى بديلا عن: (والدي)؛ ذلك لأن (أبي): من الإباء عزة النفس و الأنفة و
الكبرياء.
(كبر أبي)؛ فكان رد الفعل: (صار طفلي)، اتساقا مع دورة حياة الإنسان (خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)
[ سورة نوح الآية 14]. و تنفيذا لما أوصانا به ديننا الحنيف؛ يقول الحق في محكم
التنزيل: (وَقَضَى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ
عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [سورة الإسراء الآية24].
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
[سورة النساء الآية 36].
و بالعودة
للشطر الثاني من المتن (صار طفلي)؛ نجد الكاتب يكني بتلك (الطفولة) عن حالة الضعف
التي تنتاب الإنسان في شيخوخته نتيجة بدء انحسار عمل الهرمونات، و ظهور التغيّرات الفسيولوجيّة،
و عدم استطاعته تلبية احتياجاته، أو القيام بالمهامّ اليوميّة الشخصيّة، ولهذا يحتاج
إلى عناية و مساعدة مستمرّة، و كأنّه طفل صغير.
يقول الرسول الكريم
صلى الله عليه و سلم: (ما أكرم شاب شيخا من أجل سنه، إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه). فماذا
لو كان الشاب هو الابن، و الشيخ هو الأب؟:
إنه (البر) في أرقى و أسمى معانيه،
فإذا كان اللفظ لغة: يعني الخير، و الصدق، و الطاعة، و الفضل؛
فهو شرعاً: يعني احترام و طاعة و إكرام الوالديْن، و الإحسان إليهما ورفع الأذى عنهما،
و تولي رعايتهما، و الرفق بهما. (البر: كلمة جامعة لكل معاني الخير)، يقول الشاعر
أحمد محرم:
واجز خيرا كل حر *** صادق الإيمان بر
و رغم أن فكرة
(البر) متداولة؛ إلا أن الكاتب استطاع بصياغته المدهشة و استخدامه الجيد للمحسنات
البديعية (المقابلة) في: (كبر أبي؛ صار طفلي). أن يؤكد حقيقة أن تلك المحسنات البديعية
ـ التي يستعين بها الأدباء للتأثير في النفس من خلال التعبير عن مشاعرهم و عواطفهم
كحلية في الفنون الأدبية المختلفة ـ هي في الومضة القصصية تُعد جزء لا يتجزأ من النص
ذاته؛ و خير شاهد على هذا؛ الومضة القصصية عاليه: (كبر أبي؛ صار طفلي).
التي جاءت في أربع
كلمات فقط محققة جميع العناصر الخاصة بالومضة القصصية ـ طبقا لما أرسيته من أسس، و
ما حددته من معايير و ضوابط لهذا الفن الأدبي المبتكرـ: تكثيف، مفارقة، إدهاش، إيحاء
و خاتمة مباغتة؛ فاستحق كاتبها الفوز عنها بالمركز الأول بجدارة و استحقاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أشعار و حكم و أمثال ذات علاقة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ فصرت الآن منحنيا كاني *** أفتش في التراب
عن شبابي (راشد الدهان)
ـ قالوا انينك طول الليل يقلقنا *** فما
الذي تشتكي؟ قلت الثمانينا!.
ـ إذا شاب رأس المرء أو قل ماله *** فليس
له في ودهن نصيب (علقمة)
ـ إذا المرء أعيا رهطه في شبابه *** فلا
ترج منه الخير عند مشيب (ابن الهطيم)
ـ أيا ليت الشباب يعود يوما *** فأخبره
بما فعل المشيب (أبو العتاهية)
ـ إذا الشيخ قال أف فما مل *** حياة وإنما
الضعف ملا (المعري)
ـ الشَّيخوخة ليْست فِي الأعمَار، بَل في
العُقول. (عبد الله المغلوث)
ـ الشعر الأبيض أرشيف الماضي. (إدغار ألن
بو)
ـ البعض يولدون شيوخا و الآخرون يموتون
شبابا. (شكيب أرسلان)
ـ تكمن الشيخوخة في الروح أكثر مما تكمن
في الجسد. (فرانسيس بيكون)
ـ أكثر ما يخيفني في الشيخوخة ليس الوحدة،
وإنما التبعية. (إيزابيل الليندي)
ـ إن اجتماع الشيوخ مع الشيوخ يجعلهم أقل
شيخوخة. (غابرييل غارسيا ماركيز)
ـ الصبا ارتباك، الرجولة كفاح، الشيخوخة
ندم. (بنيامين دزرائيلي)
ـ لا تسال الشيخ عن المكان الذي يؤلمه،
بل عن المكان الذي لا يؤلمه. (مثل بلغاري)
ـ شباب كسول، شيخوخة متسولة. (مثل تشيكوسلوفاكي)
ـ للشباب وجه جميل، وللشيخوخة روح جميلة.
(مثل عربي).